المغيب في المشروع السميائي العام

شكل علم السميائيات محط اهتمام مجموعة من الأبحات المعاصرة، منذ نشأته مع
العالم دي سوسير(1857-1913)، والفيلسوف شارل ساندرس بورس (1839- 1914). حيث
بدأ الحديث عن السيرورة الدلالية التي اكتسبها الإنسان، ليشكل بذلك ثورة
معرفية لقيت إقبالا مثيرا للجدل داخل العلوم الأخرى، بدءا بالأنتربولوجيا،
والنقد الأدبي، وكذا التحليل النفسي، ولعل هذا الامتداد الذي لقيه هذا
العلم، جعله يعرف تطورا كبيرا خلال العقود الأخيرة.
غير أن الدارس و المتأمل للحقل السميائي العام سيدرك بأن هذا
المشروع لم يأخذ على عاتقه جانبا أساسيا يرتبط ب "سميائيات الأهواء"، نظرا
لكون هذا النسق لا يقل أهمية عن سميائيات العمل، والتي ليست سوى تقعيدا
لموضوع الأهواء، إذ لايمكن أن يكتمل تصورنا وتحليلنا للسلوك
الإنساني،وسيرورته الرمزية والدلالية في غياب سميائيات الأهواء.
من هذا المنطلق يبدو واضحا أن العلم الأكثر قدرة على تحليل الإيماءات
والأهواء الصادرة عن الذات، هو علم النفس- إن لم نقل الوحيد- الكفيل للوصول
إلى تفسير وفهم معاني هذه الدلالات وتلك الرموز. وإذا كنا قد انطلقنا من
مسلمة مفادها أن الحقل السميائي يهتم بالسلوك الإنساني، فالأمر يستدعي
بالضرورة التسلح بالتحليل النفسي للوصول إلى نتائج علمية موضوعية، تجعل هذا
الجانب المقصي محور اهتمامها.
إن الطرح الذي أراد غريماس
بناءه، يفيد الدعوة إلى إقامة سنن سميائي للتعبير البصري، يغض النظر عن
الصعوبات التي يمكنها أن تعترض مسيرة تأسيس سميائيات عامة، تأخذ بعين
الاعتبار مظاهر العالم الطبيعي المرئي منها والمسموع، والمتذوق والملموسة،
إلا أن تركيز غريماس على البصري أوقعه في إشكالية موقف الجسد من هذا العالم
البصري المحسوس، يقول غريماس:"الإنسان من هذا المتن ليس سوى صورة أخرى،
إنه حجم يوجد في أفق فضائي، أيضا أن الإشارية المحاكاتية سواء كانت
تواصلية، تعبيرية أو لهوية، تنبع من الجسم الإنساني باعتباره موضوعا مدركا
ومتموقعا إلى جانب مواقيع أخرى"
إن الجسد إذن، متحرك ومتغير وفق
دلالاته وأشكاله ومعانيه، إنه الشيء الذي يخلق من نفسه أشكالا،ويتسرب ليخلق
من الأشكال أشكالا أخرى. وبالتالي فتحقيق غاياته رهينة بتحقيق أشكاله، إذ
لا يمكن قراءة الجسد دون قراءة جميع أطرافه، بل ولا يمكن أن نكتب عن رغبته
في الشيء دون الحديث عن آليات تحققها. ليصبح الجسد كلا وجزءا في الآن نفسه،
صحيح أنه معطى انفعالي وغريزي وثقافي، لكن وفق الأجزاء التي تضمن إدراكه،
وما نعنيه بالإدراك، ليس قراءة الحركة أوسلسلة الإيماءات المولدة من قبل
الجسد، كما لا نقرأ ترابط هذه الحركات والإيماءات، بقدر ما نقرأ تلك النصوص
التي تقوم بتوليدها.
مهما كان الأمر، لن نفيض القول في هذا
التصور العضوي الموضوعي للجسد، فما يهمنا في هذا المقام، هو كون الجسد يأخذ
نصيبه الأوفر ضمن الأشياء الموضوعات، فالإنسان من حيث هو جسد يندمج ضمن
العالم بجانب صور وأشكال أخرى، وكانت النتيجة ضرورة- ومن الطبيعي- اهتمام
السيميائي بالسياق البصري، العالم الذي تندرج ضمنه الهيئة الإنسانية، ويتخذ
فيه الجسد أبعاده ومنظوريته الفضائية.
التحليل النفسي للفعل الجسدي.
إذا نحن نظرنا إلى سطح الخطابات، لفظية كانت أم غيرها، ندرك أنها
تتخللها تعديلات متواصلة، دلالتها كدلالة أثار النمط المنفصل، وبالتالي فلا
يمكن عرض دلالة ماهو متصل بمجرد الوقوف على ما هو سطحي في الخطاب، والوعي
بوجود جانب منعزل عن الخطاب يولد تعقيدا لابد من إدراكه، الشيء الذي يجعلنا
أمام إشكالات متواصلة ومترابطة في السمياء بمسألة الهوية الصيغية للذوات.
إن جملة هذه العوائق جعلت غريماس يقصي الذات والتأويل، واعتماده
صلابة البناء النظري الذي يتجاهل المشكلات الفردية والخصوصية، ومع ذلك
فالصلاحية التحليلية تبقى حاضرة، إذا ما تم إدماجها داخل نماذج تأويلية
متحركة قادرة على تجاوز كل الأوهام النظرية، إذ بالرغم من إقصاء غريماس
للجسد من الحقل السميائي، إلا أن نظريته في الأهواء تمكن من تحليل العواطف
المتصلة بالجسد، وفق نموذج سميائي داخلي، وتأويل خارجي.
إن
تحليلنا للخطاب يبرز أن ظواهر التعديل والتراكم تدل على فعالية حسية ذات
وظيفة إبلاغية، هذه الظواهر غالبا ما تتعلق بتوترية ذات إدراك حسي. كما أن
الصدع الشعوري للخطاب وظهور "الجسدنة" يعلنان قيام نشاط حركي ذاتي، يسعى من
خلاله الجسد للمطالبة بحقوقه في الدلالة الخطابية .
سميائيات الأهواء:نحو مقاربة تكاملية.
إذا كانت سميائية العمل قد سنت لنفسها جملة من المفاهيم، وتجارب
نظرية وتطبيقية كثيرة يشهد لها الحقل السميائي العام، فالأمر ليس كذلك
بالنسبة لسميائيات الأهواء، إذ رغم ما سرقته من أضواء وما حققته داخل هذا
الحقل الجدير بالإهتمام، فإنها لازالت تبحث عن ذاتها ومكوناتها داخل
النظرية السميائية، لغرض إثبات تراكماتها ونتائجها.
يبدو من
المجحف أن ننفي هذا المعطى، بدليل أن سميائيات الأهواء تمس كل ما له علاقة
بالجانب السيكولوجي للإنسان، وما يختزله من مشاعر متأججة بين الإحساس
بالألم /الفرح، والغربة /الضياع، والموت /الحياة، فلا غرابة في أن نجد
الشعراء هم أول من طرق باب هذا الحقل، لكونهم يخضعون إلى تقلبات واضطرابات
نفسية واجتماعية، قبل أن تؤطر داخل الخطاب الشعري.
لقد أرادت
أسطورة الكهف الأفلاطونية أن تحقق ذاتية العقل المشروط بالهوى، اعتقادا من
دافيد هيوم "أن جميع الأفكار هي نسخ لجميع إحساساتنا وأهوائنا وانفعالاتنا
كما تظهر لأول مرة في الروح"، ليصبح كل ما يوجد في الذهن هو "إحساسات ونسخ
للإحساسات"، ومنه فتحليل الأخصائي اللغوي والسميائي في دراستهما للخطاب،
يجب أن يأخذ على عاتقه البعد التلفظي للخطاب،والقدرة الإنجازية باعتبارها
إستراتيجية خطابية، نظرا لتداخل القوة العاطفية والصورية لتجسيد الذاتية
داخله، من خلال مؤشرات تلفظية بما فيها الإنفعال الكلامي والعلامات الدالة
على الأهواء. لأن النص مهما كانت هويتة في بداية المطاف ونهايته بالتأكيد
هو جسد، وتحليل هذا الجسد يقتضي حتما الوقوف عند فكره وروحه، لأن الذات
داخل النص لا تعيش بالفكر، وحسب، وإنما بالعاطفة المتقلبة أيضا.
وإذن، تبدو استقلالية البعد الأهوائي داخل النظرية السميائية العامة، كما
ذهب إلى ذلك كل من "غريماس"و"فونطاني"، أمرا مستبعدا لأن المحسوس يتولد
نتيجة قبول الحدث، وكلما وقف الدارس والمحلل عند المحسوس والمخفي، واستحضر
كل الإكراهات الاجتماعية، والدينية، والأخلاقية، والقوانين التي تسمح
بإخراج التأليفات الخطابية، إلا وتقلصت المسافة بينه وبين الدلالات العميقة
للخطاب. تجنبا للتيه والغوص في عالم بلا أفق ولا ماض ولا مستقبل، لأن
الدلالات المتنوعة، وطرق إنتاجها وتداولها، ليست إلا حصيلة لمسيرة ترميزية،
سميوزيسية ذات أبعاد لا متناهية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق