ظروف العيش بقرية "فزنا" بين الأمس واليوم
ذ. مصطفى نبوي
حين أحفر في قرار الذاكرة المنهكة،من كل ما رأيته في أيام الصبا ، أجد الأشباح ، الأطياف ، أضغاث الأحلام ، صور متطايرة ، وأشياء كثيرة في حجم الجبال ضخامة والأشجار طولا ، تعن متواثبة متناثرة كالقطط.
حقا كل شيء كان متواضعا ،بيوت واطئة وقليلة مكونة من الطين والخشب ، خيام من الحلفاء والصوف وشعر الماعز متفرقة هنا وهناك في جنبات القرية خاصة على سفوح أوديتها وبطحائها .رجال علامات الزمن بادية على محياهم .أما النساء فقلما يكتشف وجودهن ووجوههن بسبب لبسهم للباس الأسود الكاتم للوجه ، في حين الكتاكيت الصغار يستيقظون باكرا ، يتناولون فطورهم كما العادة للذهاب إلى المدرسة محملين بمحفظات ثقيلة على ظهورهم الهشة ليتلقون علما نافعا أو غير نافع تجود به قرائح أساتذتهم إن حضروا .
تكثر الحركة في الصباحات والمساءات الرجال يتوجهون إلى حقولهم ، قطعان الغنم والماعز ، قليل من البقر تغادر زرائبها إلى مسارحها لتعود إليها بعد نهار كامل خصاما أو بطانا ...، الأصوات على تنافرها تتحد ضد الصمت لتهتك أسترته الدامية المطوقة للقرية .كانت العلاقات بين هذه التجمعات السكانية المتواجدة بالقصور جد محدودة يجمعهم سوق الأربعاء الأسبوعي ببلدة الجرف ، حيث يقضون حاجياتهم ، يبيعون المواشي والدواب والحبوب ومنتوجات فلاحية مثل الفول والجزر والحبوب و" الفصة"و....
أما ما تبقى من منتوجات ، فغالبا ما يأتي من خارج المنطقة ، كان غالبية السكان يسكنون في قصور تحيط بها أسوار كقصر أولاد جلال ، القصيبة ، أولاد غانم ، أولاد الشرقي ،القصر الجديد المسمى بالمنكوبين وقصر العشورية .كان لكل قصر مجاله الخاص :مزارع ومسارح وموارد مائية ، وفقيه يصلي بالناس ويعلم الأطفال ، هذا الفقيه غالبا ما يكون من خارج القرية لتجنب الصراعات القبلية ، ولكون ابن الحي لا يطرب كما يقول المثل الشعبي . الخصومات أيضا يقتصر على فضها محليا فلا تتجاوز حدود القبيلة ، وهي من اختصاص مقدم القبيلة أو مقدم الزاوية سليل النبي صلى الله عليه وسلم .يحترمه الجميع دون استثناء ، أوامره لا تعصى ، كرامته لا أول لها ولا آخر في اعتقادهم .
أرجــــاء فزنا تتسع عـــــــاما بعد عام .هاجر الناس من قبائلهم إلى المــــدن المجاورة :أرفــود ، الراشـــدية ، مكناس ،فاس،...وإلى دول أخرى كإيطاليا ، فرنسا ، ألمانيا ،السعودية ...بحثا عن مصدر رزق وافر ثم عادوا وضخوا فيها أموالا لا بأس بها ، وشيدوا مباني فاخرة وكبيرة تسر الزائرين والمارين من حولها .
الجماعة القروية في شخص رئيسها ومجلسها قد حولت مقر إقامتها من الرملية إلى مكانها الأصلي العشورية بالقرب من البرج ، ثم شيدت بجانبها إعدادية لاستقبال أبناء القرية لاستكمال دراستهم وتحقيق أحلامهم البسيطة ،هكذا تم القران الميمون بين الجماعة والإعدادية والمستوصف ،فالأستاذ إذا كان في حالة غضب وثورة يضرب التلميذ المشاغب فيرسله إلى المستوصف ليداوي جراحه المكلومة ثم يمر هذا التلميذ على الجماعة ليوقع محضر التزام بعدم القيام بالشغب مرة أخرى داخل الفصل ، هذا هو حال هذه القرية .
فزنا ما عادت منغلقة على نفسها ، فبعيد أن بارحها بعض الأوباش والأشباح ، صارت حركتها لا تهدأ ، أناس دخلوها من مختلف الأصناف ،سيارات تثقب بأزيز محركاتها غلالة صمتها ، فترجع الجبال المحيطة بها صداها بمحاكاة رائعة، الطيور المهاجرة عادت إليها من وراء الصحاري والواحات ، فبنت أوكارها وفرخت فيها ، فاختلط الزعيق بالنعيق والنهيق بالصياح فدبت تحركات السلطات "الدرك الملكي " وكثرت الصراعات القبلية ، ثم امتلأت محكمة أرفود ونشط السجن المحلي بالراشدية وجرت أنابيب الماء ، وأعواد الكهرباء انتشرت في الشوارع والمصابيح أضاءت أزقة ودروب القرية خاصة الشارع الذي يربط فزنا بالعشورية بفعل الطاقة الشمسية .
تغيرت أشياء كثيرة ، إلا أخلاق فزنا وتفكيرها ، فزنا هي فزنا ، اذهب حيث شئت وغب عنها ما شاء الله لك أن تغيب ، وفزنا على حالها باقية .
كم أنت قاسية يا فزنا في حق بنيك ، أقول وأروي ما علق في ذهني من ذكريات ، كم أنت قاسية يا فزنا ...البارحة كان يرأس مجلسك رجل لا يربط بينه وبين القراءة والكتابة إلا الخير ،ولا بينه وبين السياسة إلا المسافة التي تفصل السماء عن الأرض، وأعضاء قصم الزمن على ظهورهم ومحياهم ، فاستعبدوا أهلها ، أشربوهم المر ، استباحوا أراضيهم ، القوي ، يأكل الضعيف .لكن سماء فزنا أرعدت فأمطرت الذئاب بردا وسلاحا ، وثارت الكهوف فافترست الدوارب .فزنا حينما تريد ، لا أحد يستطيع أن يصمد في وجهها ، لكنها اليوم استكانت واستسلمت لأطماع الطامعين المعتدين من أبناء جلدتها وكبدها الذين يسيرون شؤونها .لكن النكبات المتوالية المناخية المتمثلة في الجفاف وزحف الرمال وقساوة الطقس والنكبات البشرة عطلت سبل الحياة فيها ، فهاجرتها الأطيار من جديد ، تاركة أوكارها للصمت والعناكب والغربان واللصوص ، ليمارس كل عدوانه عليها بالشكل الذي يرضاه .وفي المقابل نزح إليها سيل من الرحل الذين كانوا يعيشون في ظل البداوة رغبة منهم في تحسين ظروف عيشهم فاستقروا بالقصر الجديد المعروف بالمنكوبين لينضافوا إلى طوابير الهلاك والحيارى والمقهورين في أحياء هامشية .هؤلاء الرحل قاموا بتغيير أسمائهم العائلية فاتخذ أغلبهم اسم "امعمر" وذلك احتذاء باسم العضو الجماعي القاطن هناك من ناحية ، ومن ناحية أخرى ليقدم لهم شهادة السكنى وليستفيدوا من الدقيق المدعم . مازالت التقاليد والعقليات والعصبيات تحافظ على قلاعها كما كانت في قديم الزمان، رغم أنف فزنا التي فتحت ذراعيها لكل وافد.
ومن بعيد تحاول فزنا أن توهمك أنها ما زالت تحافظ على كبريائها وتعاليها .تبدو وكأنها تراقب من جبلها الصخري الشامخ المحيط بها كل الأصواب والأحداب .لكن المحروسة قد انفلت زمام الأمور من بين يديها ، كيف انفلتت هذه الأمور ؟ ما الذي يحدث في فزنا الآن ؟ وهل هناك حقا ما يثيرهذا التساؤل ؟ألا يمكن أن تكون فزنا شاهدة على ما يجري فيها ؟ أم أنها المسؤولة عن كل ما يجري فيها وتتنكر في قناع سيدة وقور بينما هي عجوز شمطاء يقطر الحقد والشر من لسانها ويدها وباقي جوارحها ؟ هل كان احتضانها للغرباء قدرا وطردها للأطيار صدفة ؟ لماذا تقسو على أبنائها الأبرار وتطوح بهم في كل الحفر .في حين تخصص للثعالب والجرذان من زعمائها أحسن استقبال ، وتفتح لهم كل الأشجار والأغوار والأجران؟
فزنا لم تعجبها كل هذه التساؤلات وما تنقله الألسنة وتردده في كثير تجمعات ومناسبات عائلية نمثل هذا الكلام يشوه سمعتها ويسيئ إلى سيدة شريفة ، نزيهة ن عفيفة ضاربة في العراقة والحسب ، وتعتبر ما قيل في حقها تنكر لأفضالها على الإنسان وتدخلا سافرا في شؤونها الخاصة .كيف يعقل أن تصبح بين عشية وضحاها الأم الرؤوف الحنون سجانة ، جلادة ، تستضيف ، تستجير ، تأوي الأشرار وتطرد الأخيار من أبناء كبدها ؟ ثارت وانتفضت فوزعت الإعلان التالي في كل أرجائها :
" أبنائي الأعزاء ، ضيوف الكرام ، جارتي العزيزة العشورية ، جيراني الأوفياء :لست في حرب حتى أخوض في إنزالات متواصلة .كفى ما عشناه من ويلات .نحن بصدد ترميم البت من الداخل أولا .أبناؤنا في حاجة إلى عطف وحنان وأمومة ، تعليم وتطبيب ، وسائل نقل كثيرة ، رقة وراحة في كل مجالات الحياة ...، نعم طأنا فزنا " الجميع ، قلبي يسع لاحتواء كل الألوان من الأجيال والملل والنحل .البارحة : عمرني بعض النصارى واليهود والعرب والبربر ...تعايش الجميع في كنفي .الحجة تقارع الحجة ، والبقاء للمحق والغلبة للكيس اللبيب .لم أكن مجانية الصواب حين كنت قاسية مع الظالم الجبار في طرده بعيدا عن تخومي لكني لم أطبع علاقاتي مع باقي الأجناس الأخرى .لن أنفي طبعا مفاسد الخبثاء التي طالت كل أرجائي في المعاملات من تجارة وفلاحة وأخلاق ورياضة ...لكن الجسد المكتسب مناعة قد يصمد ويقهر الجسم الغريب ، وذلك ما حدث فعلا ، قاموا باختلاس الأموال التي تتبقى من فواتير الماء الصالح للشرب وفي المساعدات التي تأتي لإعانة سكاني أو إنجاز مشروع في بقاعي ، اختلسوها ، اختلسوها ظلما وعدوانا في واضحة النهار ، وفي ظل رقابة علام الغيوب سبحانه ، نعم .بثوا سمومهم في مواردنا ، نعم .زرعوا الطفيليات في زرعنا ، نعم ...لكنهم لم يمسحوا ذاكرتنا ، ولن يجتثوا جذورنا ...يكفينا إدراكا لجوهر قضيتنا وصراعنا ...وخير الختام السلام"
لقي الإعلان ترحابا كبيرا في أرجاء فزنا ، بعضهم يرى أن كلماته النارية كانت وراء كل هذا الاستهواء .أما الآخر فأعجب بأسلوب فزنا في الحوار .وهذا شيء لم يتعود عليه الأهالي في هذا الفضاء الشاسع المترامي الأطراف ...فاعتبروه كافيا في التعبير الذي ظلوا يطمحون إليه .أما الثالث والرابع...وهم يومئذ قلة فقد تحفظوا كثيرا من لغته الجديدة أولا والمشابهة لكل اللغات في جميع الحلبات ، سواء في المدينة أو القرية .في هذه الفترة الأخيرة بالذات .فلا فرق بين فزني واعشوري وجرفي .يتضح ذلك من خلال برامجهم وحملاتهم سواء الموسمية الخماسية التي تشبه إلى حد ما الأمطار الموسمية التي تهطل على هذه القرية أو السداسية ،الصيفية أو الشتوية ...
قال المكي وهو أحد أبناء القرية مخاطبا أعز أصدقائه ، المهدي والمعطي في شأن الإعلان : من عجب العجاب ياصحبي ، تقدمية فزنا ، ديمقراطيتها الظاهرية ، أما باطنها فيخفي من القسوة والحقد والثأر القديم والجديد من " الخصوم " .هي الأفعى ، ذات القرنين ، لينة في الملمس ، ظريفة الكلام ، لكن أنيابها شديدة العطب والجرح .وما كان منها أن أوفدت مبعوثيها ومراسليها لتوضيح فحوى الإعلان ، الواضح في كلماته ، والحامل في طياته معاني ومقاصد وغايات مرجوة، وتقصي وقعه على الأهالي والجيران، والأصدقاء والخصوم على حد سواء ، لأن الوضع حساس في الداخل واليقظة ضرورية ومطلوبة للوصول إلى بر الأمان .فعقدت التجمعات واستنفرت جحافل بشرية كما رصدت إمكانيات مادية ضخمة لمواكبة الحدث.ارتاحت فزنا للصدى الطيب الذي خلفه إعلانها في الداخل والخارج ولم يهمها من شوش عليه من خصوم وأعداء كما تسميهم، وهم تافهون لا وزن لهم في الساحة ، أعدادهم لا تتجاوز أصابع اليد ، يدفعهم الحقد والتفرقة والعنصرية والطمع وبث الفتنة،ومثل هذه المواعيد والمواسم يتجمع الناس : منهم الفضلاء الفضوليون ، والسذج لمتهورون ، والديمقراطيون ، والعيون الزائغة والطائشة والسوداء والحوراء والعوراء...ظرف كهذا ينبغي أن يعيشه هؤلاء وإلا ضاعت منهم فرص كثيرة نادرة التكرار هكذا يعتقدون.
قال المهدي معلقا على المكي : ها أنت تحاضرنا على غير عادتك ، ولا تحاورنا أو تسامرنا كما يحلو لك أن تقول ...أما فيما يخص سلوك الناس وردود أفعالهم عن الإعلان ، فأرد ذلك إلى الأنانية التي تعمر صدورهم ، يريد كل واحد أن يحقق ذاته من خلال ما يقوم به ويحقق ما يصبو إليه .أما الآخر فلا يهمه .وهذا سبب كاف لتعارض مصالح الأهالي بفزنا .
قال المعطي : لا أظن أن فزنا تدرك هذا السبب .
المهدي : تدركه وزيادة ، بل هي تغذيه ، إذ كيف يعقل أن تنتهز مناسبة فتقذف من أفضالها الكثيرة على الانتهازيين والطماعين مقابل سكوتهم وانخراطهم في صفوفهم .
المكي : صدقني ، لا شيء يسكت ضجيج أراقط فزنا غير الصيد الثمين في هذه المناسبات :الرخص ، المنح ، الأحلام الوردية كلها توزع بسخاء.
قال المعطي : هل تعتقد أن تفكر فزنا بهذا الشكل والعالم يعيش ثورة حقيقية في كل المجالات ؟
أليس من العار أن يكون حلالا عليها استغلال الأهالي باسم وحدة القبائل ومصلحة القرية وهلم كلمات سمينة من هذا القبيل ؟
المكي : هذا الصراع كان سائدا أمس ، والذي تغير فيه هو الشكل .ألا تذكروا أيام الصيف القائظة؟
كان الأهالي يتمرغون كالحيتان في عرقهم طيلة النهار تحت سقوف الأزقة والأشجار .وعند الأصيل يشتد أوار الصياح فتغرق فزنا في لجج الشتائم والتعاير ، فتختلط ببكاء الأطفال ونباح الكلاب وتصفيق المشجعين الفضوليين في أحيان قليلة .كانت هذه المشادات الكلامية قلما تفضي إلى شجار يدور بين النساء ، ويشارك فيه الرجال ذوو الشخصيات الضعيفة .وفي هذه السنين صيره العارفون لعبة رابحة لتحقيق أهدافهم الصغيرة .
المهدي: صدقت .الصراع ، صراع النساء حول إلى صراع متلون يخدم مصالح ضيقة ، تشعل نيران العداوة بين الأشخاص والأحياء والقصور ، إلى القبائل ، ويربح الرابحون ، أقصد تربح فزنا أشياء كثيرة وتخسر أشياء كثيرة أيضا وهي تدري ولا تدري.
المعطي مقاطعا : الذي آلمني في مساءات فزنا الملتهبة صياحا وعرقا ، انشغالات أهاليها في تفاهات بعضهم البعض ، بينما تجثم الحثالات في أجبابها تنعم بالرطوبة بعيدا عن اللهب الحارق ، وتنسلخ من برانسها وبطونها ملأى بالصيد السمين المكون من الدجاج المحمر واللحم المشوي والحلويات.
إذن ، فلينس الجميع أدران وأحزان الماضي البئيس ، وليقبل على فجر التصالح مع الذات ومع الآخر ، فقد بزغ ...فهبوا جميعا لتسلق القطار ، بل نركبه ما دام واقفا في محطتنا ، قبل أن يغادرها وتدوس أجسادنا عجلاته الفولاذية مرة أخرى.
ذ : مصطفى نبوي ( من أبناء المنطقة)
ملاحظة : فزنا اسم قرية تقع في الطريق الرابطة بين أرفود وتنجداد، إقليم الراشدية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق