"محمود درويش" النهاية التي لن تنتهي"

ذ. سمير أوربع- أزيلال-المغرب
إن شعر المواجهة والتحدي الذي انخرط فيه محمود درويش في ديوانه الأخير، يعيدنا إلى "نوستالجيا" مجموعته "جدارية"، القائمة على ما يفوق ألف سطر شعري، والتي شكلت الإرهاص الأول لتفجير سؤال الموت شعريا، حيث قرر الشاعر، وبعد عملية جراحية التي لم يمض عليها سوى أشهر سنة 2000، أن يلقي قصيدته كاملة في العاصمة المغربية الرباط أولا. حينها وقف الشاعر وجها لوجه أمام إمبراطور الموت، ليقيما حوارا صاعقا، كشف عن توتر الجسد، وفجر أسئلة جارفة ، مثلت بؤرة ملحمة جلجامش الأسطورية، أراد بها أن يجعل من الموت شبيه عاصفة على شجر، لا أن يجلس على العتبات، كالشحاذ، أو جابي الضرائب.
وياموت انتظر ، واجلس على
الكرسي . خذ كأس النبيذ ، ولا
تفاوضني ، فمثلك لا يفاوض أي
إنساني ، ومثلي لا يعارض خادم
الغيب . استرح فلربما أنهكت هذا
اليوم من حرب النجوم . فمن أنا
لتزورني ؟ ألديك وقت لاختبار
قصيدتي . لا . ليس هذا الشأن
شأنك . أنت مسؤول عن الطيني في
البشري ، لا عن فعله أو قوله
وإذن، تأتي صرخة الكتابات الشعرية الأخيرة للشاعر "محمود درويش"، مرفوقة بجدلية حتمية "اليقين/ التحدي"، كرستها رحلة الخريف الشعرية التي رسمها بوجع فان غوغ، وحزن أنكيدو، وحلم الانبعاث، والخروج بمتاهاته من الليل الرهيب، إلى التحديق في عمق الوجود المظلم، مادام في مشروعه شيء يستحق الحياة، لكن المسافة الشعرية الرابطة بين هذه الجدلية، كونها اتسمت بإيمانه اليقين باقتراب موعد الرحيل، ليفسح المجال للقدر كي يروي تفاصيل مسيرته الشعرية الباذخة، التي حتما لم يرد لها أن تنتهي.
اقترب الموت مني قليلا
فقلت له: كان ليلي طويلا
فلا تحجب الشمس عني!
وأهديته وردة مثل تلك...
فأدى تحيته العسكرية للغيب
ثم استدار وقال:
إذا ما أردتك يوما وجدتك
ظل الراحل يبحث عن قطرة ماء، وبريق نور، منطلقا من منحى الأمل لينتهي بغياهب مجهول، فروعه ممتدة في السماء، في محاولة لتحدي المصير الأبدي، وتخطي الشعور الممض عبر شعرية مشبعة بطاقة أيروسية جذابة، جاذبية العطاء الجسدي نفسه، الذي يعلن في نبرة من اليأس عن رحلة بين دروب مصير غريب، يكتفي فيه الشاعر بخط الطيور، وحرية الريح، التي تحمله حيث تشاء. ولامراء في كونها رغبة جامحة في تحمل مسؤولية البعث، أما الموت فليس في قصيدة درويش سوى معبرا لإقتناص الحياة، وارتباطه الوطيد بالماضي، واستشراف المستقبل يعكس مدى وعيه المطلق بماهو، وما سيكون. وهو عمق دلالي فني مكن الشاعر من إغناء رؤيته الشعرية الأكثر اتساعا، لقدرتها على الربط بين ما هو حاضر آني، ما هو قادم أزلي.
ينبئني هذا النهار الخريفي
أنا سنمشي على طرق لم يطأها
غريبان قبلي وقبلك إلا ليحترقا
في البخور الإلهي.
لقد أراد محمود درويش من خلال مشروعه الشعري المختمر، أن يهزم أقرب أعدائه وهو الموت ، بل وأراد لقصيدته أن تكون سيفا يشهره في وجه اللحظة التي تقترب منه لتقبل جبينه ، وعيا منه أتم الوعي أن الفناء الجسدي لا مفر منه، لكن بالموازات مع ذلك، فقد أراد لقصيدته أن تظل في مصعد جمر الحنين، يصبح من خلالها الفضاء عالما لا متناهيا، بالرغم من وجود زمن زئبقي ينفلت من المتخيل الغنائي، ليتخذ شكل فخ يشيخ الصدى، ويكتسح الهواء الشعري الرطب الذي كان في ملكه.
إن الزمن هو الفخ
قالت: إلى أين تأخذني؟
قال: لو كنت أصغر من رحلتي
هذه، لا كتفيت بتحوير آخر فصل
من المشهد الهوميري....
لهذا كشفت ملامح الفضاء المتخيل في قصيدته الأخيرة عن ميل نحو تخوم النهايات، والأبدية البيضاء، من خلال رؤيا الأنا الصاعدة إلى السماء، حيث مملكتها المتوخاة ، فالذات الشاعرة تلح على السير في اتجاه المجهول، الذي يوجه القصيدة إلى البحث عن سر التناهي، من خلال تفجير الأسئلة المقلقة، وجعل الموت ممرا رمزيا من الزمني إلى اللازمني، من التناهي إلى نقيضه الأبدي، من لحظة الترقب إلى لحظة اليقين.
سمعت هسيس القيامة لكنني
لم أكن جاهزا لطقوس التناسخ بعد،
فقد ينشد الذئب أغنيتي شامخا
وأنا واقف، على نفسي، على أربع
هل يصدقني أحد إن صرخت هناك:
أنا لا أنا
وأنا لاهو؟
بهذا تعلن شعرية درويش رفضها للانقطاع، والانفصال، في ظل وجود شبح الزمن الذي يطاردها أينما راحت ولوحت، وفي ذلك رفض من الذات الشاعرة أن تغوص مقابر المياه، مادامت غير جاهزة لطقوس التناسخ بعد، بل وأرادت أن تغتسل بعطر الإسفنتين، وتغازل نجوم السماء في الليالي العصيبة، دون ذوبان بلورها الأليم، ليتصاعد حنين الشاعر في تعاطف باد لا يخفي خوفه من عجلة الزمن العنيفة، ومن ثمة الكشف عما في جعبتها الدفينة من أحلام، وأمنيات تتفاعل مع براءة المشروع الشعري، سعيا وراء البحث الذؤوب عن منفد إلى أقاصي ماهو خفي وأزلي، فالشاعر بقي مهموما بمواصلة طريق قصيدته الطويلة، والشاقة، رغبة في التحرر من أيما قيد كان، باستتناء قيد شعريته الملتهبة بين أحشاء جسده الذي كلما أوشك أن ينطفئ، إلا وعاد المخيال الشعري ليشعل فتيل الثورة التي تأبى النهاية الخريفية، وتعلن الإصرار، والرغبة في المواصلة والاستمرار، كما تريد، وكما تشتهي. ولا ريب عندي، في أن تكون قصيدة "لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي"، قد حفلت بأشكال التمرد على قالب الزمن، وإكراهاته التي جعلت من الراحل محمود درويش شاعر الأبدية التي لا تنتهي.
لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي أبدا
لا أريد لها هدفا واضحا
لا أريد لها أن تكون خريطة منفى
ولا بلدا
لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي
بالختام السعيد، أو بالردى
أريد لها أن تكون كما تشتهي أن
تكون:
قصيدة غيري. قصيدة ضدي. قصيدة
ندي....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق